فى السياسة العالمية تحدث دائما تحولات تغير من ديكورات المسرح السياسى ثم تحدث تحولات أخرى لتغير حتى أدوار اللاعبين وأشخاصهم ثم تصل التحولات إلى تغير الرواية نفسها ..ففى كل حقبة زمانية نجد لها أبطالها وأحداثها المختلفة ومثلما نتابع الآن فى بداية العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين المشهد السياسى العالمى الغاية فى التعقيد نجد أن المشهد نفسه فى نفس المساحة الزمنية من القرن الماضى القرن العشرين لم يكن يقل تعقيدا بل كان يزيد ! .
فقد كانت امبراطورية النمسا والمجر تمارس نفوذا ضخما فى وسط أوربا خاصة فى منطقة البلقان التى كانت تشهد توترات كبيرة وفى سبيل بحث هذه التوترات ذهب الارشيدوق النمساوى فرانز فرديناند (لقب أرشيدوق لقب نمساوى ويعنى الأمير الذى يتمتع بسلطات سيادية كبيرة ) لمقابلة صديقه المقرب الأمبراطور الألمانى فيلهلم أو "غليوم" كما كان يطلق عليه هنا فى مصر وبلاد العرب . كان ذلك فى منتصف يونيو 1914 وفى أواخر نفس الشهر فى يوم 28 يونيو ذهب الأرشيدوق إلى سراييفو فى البوسنة والهرسك لزيارة قواته الامبراطورية المتواجدة هناك و اصطحب معه زوجته صوفى ..كانت المنطقة فى هذا الوقت تنبأ عن قرب انفجار كبير ولكن كيف سيكون ومتى كان ذلك هو السؤال .
فى ناحية أخرى كانت هناك حركة شباب البوسنة القوميين وأعضاءها من الصرب و ضد النفوذ النمساوى فى البلقان ولذلك رات فى زيارة الارشيدوق فرانز فرديناند فرصة لتوجيه ضربة لهذا التواجد الاستفزازى وقامت بدراسة برنامج الزيارة جيدا وخططت لاغتيال الارشيدوق فى سراييفو ! .
جافريلو برينسيب ذلك الشاب الصربى البالغ من العمر 19 عاما هو من سيقود عملية الاغتيال المرتقبة ولم تكن هناك مشكلة فى التزود بالسلاح لأن منظمة اليد السوداء الصربية الارهابية لم تبخل به عليه هو وزملائه .
وجرت سيارة الأرشيدوق فى موكب مكون من ست سيارات على الطريق إلى القاعة التى كان سيجرى فيها حفل استقبال للارشيدوق وانتظر فريق المتآمرين المكون من سبع أفراد فى نقاط متفرقة من هذا الطريق الذى درسوه بعناية قبل تنفيذ خطتهم وعندما لاحت لجابرينوفيتش (أحد المتآمرين السبعة ) الفرصة ألقى بقنبلة على سيارة الارشيدوق المكشوفة إلا أنها ارتطمت بمؤخرتها وانفجرت بعيدا عنها فى السيارة الأخرى التى كانت تتبعها فى الموكب ويصاب أحد الضباط المرافقين وعدد من المارة ليسرع سائق السيارة الامبراطورية طالبا النجاة وحتى يلحق بحفل الاستقبال الذى ينتظر الارشيدوق وزوجته صوفى وبالفعل يلحق بالحفل الذى كان سيتبعه حضور الضيف الامبراطورى لمناورة للقوات النمساوية فى البوسنة خارج مدينة سراييفو واستطاع القائد النمساوى الجنرال بوتيوريك إقناع الأرشيدوق بسلوك أقصر الطرق للخروج من المدينة التى تعج بالمتآمرين وكان الطريق الجديد المقترح على شكل حرف v حيث ترتكز نقطة المنعطف الحاد على أحد الجسور فوق نهر ميلياكا وبذلك كان متاحا لسيارة الأرشيدوق الانطلاق بكل سرعتها إلا عند المنعطف الذى كان ينتظر عنده جافريلو برينسيب قائد المتآمرين الذى وجد نفسه فى مواجهة السيارة التى تسير ببطئ شديد أو شبه متوقفة فاخرج مسدسه الأتوماتيكى من سترته وأطلق الرصاصة الاولى التى استقرت فى بطن صوفى زوجة الارشيدوق التى كانت فى شهور الحمل لتلقى مصرعها فى الحال ثم يوجه جافريلو رصاصته التالية لتصيب الأرشيدوق الذى هتف باسم زوجنه عندما أصيبت بالرصاصة الأولى وعندما أصابته هو الرصاصة الثانية بالقرب من قلبه ارتمت راسه للخلف وفارق الحياة فى لحظتها . وفى هذه الأثناء جرت محاولات مستميتة لسرعة إنقاذه هو وزوجته بنقلهما فورا إلى أقرب مستشفى للعلاج ولكنهما بعد حوالى الساعة من إصابتهما تم التحقق من وفاتهما تاركين الساحة السياسية فى العالم على سطح صفيح ساخن ! .
وثارت سائرة امبراطورية النمسا والمجر ولكن هل تترك لغضبها العنان وهى تعلم أن روسيا تقف وراء الصرب لذلك لم يكن هناك مفرا من طلب العون من ألمانيا وكتب الامبرطور النمساوى فرانز جوزيف للقيصر الالمانى فيلهلم يطلب منه المؤازرة على ماهو مقدم عليه من مواجهة الصرب ، وفى يوم 6 يوليو أبلغ المستشار الالمانى ثيوبولد بيثمان هولويج المبعوثين النمساويين أن فيينا ستحظى بكل المساندة من ألمانيا .
وقوى العزم النمساوى وتجرأ على توجيه إنذار إلى الحكومة الصربية يطلب منها وقف نشاطات المنظمات الإرهابية داخل حدودها والقبول بإجراء تحقيق فى حادثة اغتيال الأرشيدوق تحقيقا مستقلا من قبل الحكومة النمساوية – المجرية ...و فى هذه الأثناء طلبت الحكومة الصربية مساندة روسيا لها ولأن القيصر الروسى كان يعلم جيدا أن ألمانيا ستنتهز فرصة الأزمة لتشن حربا وقائية فى منطقة البلقان فقد أخذ فى تعبئة قواته ، وفى يوم 28 يوليو أى بعد مرور شهر على حادثة اغتيال الأرشيدوق أعلنت امبراطورية النمسا والمجر الحرب على صربيا وبعد ثلاثة أيام وبعد التأكد من دخول القوات الروسية فى حال التعبئة أعلن القيصر الالمانى يوم 1 أغسطس الحرب على روسيا و بدأت القوات الألمانية هجوما على حليف روسيا (ولم يكن حليف روسيا غير فرنسا ) لتخترق القوات الألمانية الحدود البلجيكية منتهكة الحياد البلجيكى بغية غزو فرنسا من حدودها الشمالية مع بلجيكا وفى وقت لاحق دخلت بريطانيا العظمى الحرب ضد ألمانيا .
وهكذا نرى فى جزء صغير جدا من سيناريو بداية الحرب العالمية الأولى أن انعطاف سيارة الارشيدوق الخاطئ كان سببا فى اشتعال حرب كونية استمرت لخمس سنوات من 1914 إلى 1918 قتل خلالها 17 مليون نفسا منهم 10 ملايين من القوات المتحاربة و7 ملايين من المدنيين وإصابة أكثر من 20 مليونا . وتلك هى فعلا سخرية القدر ! .