إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً . أما بعد: أحبتي في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذه ليلة الجمعة الموافق للعاشر من شهر الله المحرم للعام السادس عشر بعد الأربعمائة والألف من الهجرة النبوية الشريفة، وفي هذا الجامع المبارك، جامع الراجحي بمدينة جدة ، نلتقي وإياكم مع موضوع بعنوان: (غثاء الألسنة). والغثاء بالمد والضم: ما يجيء فوق السيل مما يحمله من الزبد والوسخ وغيره.
وغثاء الناس: أراذل الناس وسقطهم. والغث: هو الرديء من كل شيء.
وغث حديث القوم: فسد وردأ.
وأغث فلان في حديثه: إذا جاء بكلام غث، لا معنى له.
وما أكثر الكلام الفاسد الذي يدور في مجالس المسلمين، أياً كانوا كباراً أو صغاراً، رجالاً أو نساءً. إن غثاء الألسنة اليوم يزكم الأنوف، ويصم الآذان، ويصيبك بالغثيان والدوار، وأنت تسمع حديث المجالس اليوم، لا نقول ذلك في مجالس العامة ودهماء الناس فقط، بل -ويا للأسف، وأقولها بكل أسى- حتى في مجالس الصالحين، وفي مجالس المعلمين والمتعلمين.
غثاء الألسنة في الكذب والنفاق والغش والخداع.
غثاء الألسنة في الغيبة والنميمة والقيل والقال.
غثاء الألسنة في أعراض الصالحين والمصلحين والدعاة والعلماء، في الوقت الذي سلم فيه أعداء الإسلام من اليهود والنصارى، و الرافضة والمنافقين. غثاء الألسنة في التدليس والتلبيس، وتزييف الحقائق وتقليب الأمور.
غثاء الألسنة في التجريح والهمز واللمز وسوء الظن. غثاء الألسنة في الدخول في المقاصد والنيات، وفقه الباطن. غثاء الألسنة بكل ما تحمله هذه الكلمة من غثائية وغث، وغثيث وغثيان. وما هي النتيجة؟! النتيجة بث الوهن والفرقة والخصام والنزاع بين المسلمين، وقطع الطريق على العاملين، وإخماد العزائم بالقيل والقال.
إنك ما إن ترى الرجل حسن المظهر وسيماه الخير، وقد تمسك بالسنة في ظاهره، إلا وتقع الهيبة في قلبك والاحترام والتقدير في نفسك، وما إن يتكلم فيجرح فلاناً ويعرض بعلان، وينتقص عمراً، ويصنف زيداً، إلا وتنزع المهابة من قلبك ويسقط من عينك، وإن كان حقاً ما يقول.
نعم! وإن كان حقاً ما يقول، وإن كان صادقاً فيه فلا حاجة شرعية دعت لذلك، وإن دعت تلك الحاجة فبالضوابط الشرعية وبالقواعد الحديثية، فإن لم تعلمها أيها الأخ الحبيب! وإن لم تعلميها أيتها المسلمة! فما نستطيع أن نقول إلا: أمسك عليك لسانك.
إن المصنفات في الجرح والتعديل قد بلغت مئات المجلدات، لكن اقرأ فيها وتمعن، وكيف هو الجرح فيها، فشتان بين الجرحين، لقد كان خوف الله عز وجل ميزاناً دقيقاً لألسنتهم رحمهم الله تعالى، وكان هدفهم هو تمييز صحيح السنة من سقيمها. ولكن ما هو الهدف اليوم؟! نعوذ بالله من الهوى، والحسد، والنفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق. أيها الأخ الحبيب! أيتها الأخت المسلمة! إلى متى ونحن نجهل أو نتجاهل، أو نغفل أو نتغافل عن خطورة هذا اللسان؟ مهما كان صلاحك، ومهما كانت عبادتك، ومهما كان خيرك، ومهما كان علمك، ومهما كانت نيتك، ومهما كان قصدك. فرحم الله ابن القيم رحمةً واسعةً، يوم أن قال في الجواب الكافي : (من العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم والسرقة وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله، لا يلقي لها بالاً يزل بالكلمة الواحدة أبعد مما بين المشرق والمغرب والعياذ بالله.
وقال -أيضاً- في الكتاب نفسه: إن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله تعالى وما اتصل به).
وما أجمل هذا الكلام، ولذلك أقول أيها الأخ الحبيب! ويا أيتها الغالية! احذر لسانك، وانتبهي للسانك، واحبس لسانك، وأمسك عليك لسانك. (أمسك عليك لسانك) هو جزء من حديث نبوي، أخرجه الترمذي في سننه و أحمد في مسنده و ابن المبارك و الطبراني وغيرهم من حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه، قال: (قلت يا رسول الله! ما النجاة؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: املك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك) وفي لفظ: (أمسك عليك لسانك) والحديث صحيح بشواهده.
وأنا هنا لا أدعوك للعزلة، وإنما أقول: أمسك عليك لسانك إلا من خير، كما في الحديث الآخر: (فإن لم تطق فكف لسانك إلا من خير) والحديث رواه أحمد و ابن حبان وغيرهما، وهو صحيح كما سيأتي إن شاء الله. [وحفظ اللسان عن الناس أشد من حفظ الدنانير والدراهم] كما يقول محمد بن واسع رحمه الله تعالى. ولأن كثرة الكلام تذهب بالوقار، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ولأننا نرى الناس أطلقوا العنان لألسنتهم، فأصبح ذلك اللسان سلاحاً لبثَّ الفرقة والنزاع والخصام والشتائم، وفي مجالات الحياة كلها، وبين الرجال والنساء بحد سواء، ولكثرة الجلسات والدوريات والاستراحات، ولأن الكلام فاكهة لهذه الجلسات، كان لا بد من وضع ضابط، ولا بد من تحذير وتذكير للناس في مثل هذه الجلسات، ولأنك ستسمع الكثير إن شاء الله تعالى من الأسباب التي جعلتني أختار مثل هذا الموضوع من خلال هذه العناصر وهي: - أدلة خطر اللسان من الكتاب والسنة. - السلف الصالح مع اللسان. - صور من الواقع. - النتيجة النهائية. واسمع قبل ذلك كلاماً جميلاً جداً للإمام النووي رحمه الله تعالى، في كتاب الأذكار يوم أن قال: فصل: اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام، إلا كلاماً تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة - اسمع لفقههم رحمهم الله تعالى -ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة- يعني: كان قول الكلام أو تركه المصلحة واحدة- فالسنة الإمساك عنه، لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير أو غالب في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء) انتهى كلامه رحمه الله